(عمل) مسلوق!

(مقال)

لطالما اعتقدتُ أن أيّ مجتمعٍ هو كائنٌ حيّ بطريقةٍ ما، ألا ترى معي أن المجتمع يتمتّع بعددٍ من خصائص الكائن الحي؟
إنه يحيا ويموت، ينمو ويتنفّس، يمرض ويشفى، ينام ويستيقظ، يتفاعل مع باقي الكائنات وله مزاجه الخاص أيضاً، وكما أن أيّ كائن حيّ يتكوّن في بنيته العضويّة من أعضاء وأنسجة قوامها الأساسي الخلايا، فإن الأمر ذاته ينطبق على المجتمع؛ وخلاياه في هذه الحالة هم الأفراد.
ولذلك، فإن سلوك الأفراد/الخلايا حتماً سيؤثر على سلوك المجتمع/الكائن، ولا أدلّ على ذلك من بعض سلوك الأفراد الذي إذا وافق هوىً جمعيّاً تحوّل إلى سلوك مجتمع، وحينها نكون أمام ظاهرةٍ اجتماعية قد تُنتقد وتضمحلّ إن كانت غير مقبولة، وعلى النقيض فقد تتمدّد بعدما تلاقي قبولاً عاماً لتصبح ثقافة تسم هذا المجتمع أو ذاك وتميّزه عمّا سواه، وبالتالي فإن تراكم الثقافات زمنيّاً هو ما يصنع هوية الأمم، وهو أيضاً ما يجعلها في النهاية تتقدّم أو تتأخّر في سباق الحضارات المحموم الذي لا يرحم.
فيما يخصّ مجتمعنا الفتيّ، فإننا نستطيع جميعاً رصد سلوكيات فرديّة واعدةٍ تبشّر بمستقبلٍ أجمل، وأخرى وخيمة أخشى أنها مرشحة لأن تتطوّر إلى ظاهرة ثم إلى ثقافة، وعندئذٍ سيكون الثمن باهظاً ولات مندم، ومن جملة تلك السلوكيات المخيفة والمتفشيّة إلى حدٍّ مقلق في بعض ميادين المجتمع الوظيفي والمناشط التجارية والاجتماعية المختلفة.. السلق!
نعم، سلق العمل.. مثل (سلق البيض)!!
وأقصد بذلك الإهمال والاستسهال في أداء الأعمال أو الخدمات المطلوبة، ويتضح ذلك جليّاً عند قيام ذلك الموظف المستهتر بإنجاز مهامّه بأقل قدر ممكن من الجهد دون الاعتناء بجودة الخدمة أو الإنتاج، فضلاً عن الالتفات إلى التحسين أو التطوير، والموضوع في جوهره ينطلي على بعض التذاكي الذي يتفتّق عنه ذهن ذلك الموظف البائس، فهو بسلقه للأعمال المطلوبة منه يعتقد أنه يستطيع الادّعاء بإنجازه لكل المطلوب منه بلا تأخيرٍ ولا نقصان، في محاولة ساذجةٍ منه للهروب من أيّ مساءلة أو عقاب، وكأن ذلك المطلوب يُنجز بالكمّ فقط، بينما هو أول من يعلم أن الكيف مطلوب مع الكم إذا لم يكن قبله، ولكنه للأسف الاستسهال الممزوج بالاستهبال!
وبالمناسبة، فإن هذا الاستسهال لا يعني أن ذلك الموظف (الطبّاخ) تنقصه المعرفة أو القدرة على الإبداع فيما يقوم به، بل على العكس من ذلك تماماً، فالكثير منهم لديه كل ما يلزم من الكفاءة والإمكانيات للتجويد والتحسين ولكنه الإصرار البليد على (سلق) العمل من باب الكسل والإهمال فقط، في ظل غياب ثقافة الإنتاج لديه واعتلال البيئة المحفّزة بالتزامن مع غفوة الضمير بالطبع.
إنه سلوكٌ مشين ووباءٌ مُعدٍ إن سمحنا له بالانتشار، ولا أظننا سنسمح، فما من مجتمعٍ يحترم نفسه ويطمح بأن يتقدّم ويتصدّر محيطه تحضّراً ورفاهيةً يمكن أن يسمح لهكذا سلوك بالتكاثر حتى يصبح ثقافة، ولذلك فإن كل المجتمعات المتقدّمة غرباً وشرقاً تسارع إلى التبرّؤ عاجلاً ونبذ كل سلوك مشين ومكافحته ابتداءً بالأفراد والمؤسسات، بينما لا تبادر المجتمعات المتأخّرة إلى ذلك، والنتيجة كما نراها من حولنا؛ شعوباً متخلّفة ودولاً فاشلة.
إن لنا تاريخاً مشرّفاً صنعه أجدادنا وأسلافنا ممن بنوا هذا الوطن الشامخ لبنةً لبنةً رغم شظف العيش وشحّ الموارد، بنوه رجالاً ونساءً بسواعدهم وعرق جبينهم عبر إتقان أعمالهم والسهر على تجارتهم دون كللٍ أو ملل، وجاءت رؤية ٢٠٣٠ المباركة مؤخراً لتبني على ذلك الإرث الثقافي وتلك الجهود، مركّزةً أهدافها على رفع الأداء وجودة الإنتاج من أجل وطنٍ لا يرضى بأقل من التربّع على القمّة.
وقبل هذا وذاك، فإن ديننا العظيم يحثّ كل مؤمنٍ وبلا مواربة على الاهتمام بعمله في وصيةٍ نبويّةٍ خالدة:
"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ". 

تعليقات

  1. اعجبنى المقال جدا. فكرته واضحة ومن صميم الحياة العملية.

    ردحذف
    الردود
    1. سعيد بانطباعك، وآمل أن يكون مفيداً

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ثرثرةٌ على ضفاف النسيان | ١٣ | غرور

رحلة بريّة

الوعي⁩.. نواة الإنسانية والحضارة