الوعي.. نواة الإنسانية والحضارة
(مقال)
منذ النشأة الأولى أدرك الإنسان بأدوات عقله البدائية آنذاك أنه كينونةٌ مستقلةٌ بذاتها، قادرة على الفعل والتفكير وتوليد المشاعر، كما أدرك أيضاً وعبر حواسّه أنه كائنٌ مختلف عن باقي الكائنات والموجودات من حوله، وعن طريق هذه العمليات العقلية والحيوية نشأ لديه (الوعي) الذي أعتقد أنه اللبنة الأولى التي بنى بها إنسانيته وحضارته عبر العصور.
يعتبر الوعي خاصية تميز الكائن البشري عن غيره من الكائنات والأشياء الطبيعية، ومن هذا المنطلق جرى اعتبار أن الإنسان هو بالأصل ذات واعية، ولذلك فإن الوعي كنشاط إنساني وعقلاني فريد متصل بالمعرفة قد يتقدّم أ ويتأخّر تبعاً لتشكّله عبر أكثر من سلطة متداخلة، هي بالترتيب حسب أهميتها؛ الذات/الضمير، والمجتمع/الثقافة، والدين/الأخلاق، وأخيراً النظام/القانون.
مع تطوّر الوعي نفسه، عكف الإنسان على تعريفه ومحاولة فهم ماهيّته عبر عدة أطروحات متباينة، دشّنها الفلاسفة منذ القدم مروراً بمختلف أرباب العلوم، حتى تم إخضاع هذا المفهوم مؤخراً للتجارب والمعامل في محاولاتٍ لا تتوقف في سبيل تفسيره بشكلٍ أفضل، ومع ذلك فإننا لا نزال نستطيع النظر إلى مفهوم الوعي بشكل شموليّ من خلال المنظور الفلسفي والنفسي والاجتماعي والحيوي عبر أهمّ الروّاد الذين حاولوا سبر أغواره.
المنظور الفلسفي:
-الوعي حقيقة بديهية تُدرك عن طريق الحدس العقلي بحيث لا يرقى إليه الشك أبداً، وهو خاصية أساسية وثابتة تميز الأنا كجوهر مفكر. (ديكارت)
-لا يمكن للإنسان أن يعي ذاته ويشعر بها من دون عملية إدراكية حسية، وبزوال ذلك الإدراك الحسي يزول الوعي بالذات. (هيوم)
-إنه قدرة الإنسان على تصور ذاته ووعيه بها، وهو ما يجعله كائنا حراً مسؤولاً وذا كرامة لا تقدّر بثمن، ويرتبط مفهوم الوعي بالذات بالنطق بلفظ أنا أو على الأقل امتلاك تصوّر عنها. (كانط)
-إنه المصدر أو الأساس الذي تُبنى عليه كل الحقائق، فسلوكيات الإنسان وأفكاره صادرة عن الوعي. (سارتر)
المنظور النفسي:
-هناك الكثير من أفعال الإنسان وأفكاره لا يمكن تفسيرها انطلاقا من الوعي وحده بل هي صادرة عن دوافع لاواعية.
-اللاوعي هو الجانب العميق والخفي في الجهاز النفسي والذي يحتوي على دوافع ورغبات غريزية ومكبوتة.
-تتجلّى الدوافع اللاواعية في عدة مظاهر (زلّات اللسان والهفوات والأحلام والإبداعات الأدبية والفنية) كأشكال تعبيرية تتيح للّاوعي أن يطفو إلى السطح ويعبر عن نفسه بكل حرية.
-اللاوعي سابق للوعي في تفسير كل الأفكار والمشاعر والسلوك، والوعي هو مجرد جزء من اللاوعي. (فرويد)
المنظور الاجتماعي:
-الوعي لا يحدّد الوجود الاجتماعي، بل الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي، وكل أشكال الوعي من أفكار و تمثّلات دينية وأخلاقية وميتافيزيقية هي تجلّي وانعكاس للحياة المادية.
-السلوك المادي للإنسان هو المحدّد لأشكال الوعي المختلفة. (ماركس)
المنظور الحيوي:
-الوعي هو نشاط عقلي بحت، مرتبط بخلايا الجهاز العصبي للدماغ، ولا يمكن تصوره بدونه، فهو مشروط فيسيولوجيا، وبذلك فهو يرتد إلى الطابع المادي للصور العقلية التي يتلقّاها الإنسان عبر حواسه الخمسة. (شونجو)
نلاحظ في كل ما سبق، تلك المحاولات الكبرى للتعبير عن الوعي لدى الإنسان، والتي يمكن اعتبارها محاولاتٍ متكاملة أكثر من كونها متصارعة، ومن هنا أستطيع القول أن الوعي في أهم جوانبه يعبّر عن ردود أفعال الإنسان تجاه ذاته أولاً، ثم المحددات الخارجية المحيطة به ثانياً..
فهو استبطان لما تحمله الذات من ذكريات ومشاعر وأفكار تتشكّل عبر الإدراك الحسي للواقع، وربما كان للوعي أيضاً اليد الطولى في قدرة الآدميّ (الإنسان العاقل الحديث) دون غيره على التمييز ولأول مرة بين المشخّص من الأشياء التي يدركها بحواسّه الخمسة وبين المجرّد من المفاهيم التي استطاع إدراكها بعقله لا بحواسّه، وهي ما يمكن أن أطلق عليها المحطة الأبرز نحو البناء الحضاري في أطواره المتعاقبة خلال التاريخ الإنساني الممتدّ لحوالي ثلاثة مليون عام.
فهو استبطان لما تحمله الذات من ذكريات ومشاعر وأفكار تتشكّل عبر الإدراك الحسي للواقع، وربما كان للوعي أيضاً اليد الطولى في قدرة الآدميّ (الإنسان العاقل الحديث) دون غيره على التمييز ولأول مرة بين المشخّص من الأشياء التي يدركها بحواسّه الخمسة وبين المجرّد من المفاهيم التي استطاع إدراكها بعقله لا بحواسّه، وهي ما يمكن أن أطلق عليها المحطة الأبرز نحو البناء الحضاري في أطواره المتعاقبة خلال التاريخ الإنساني الممتدّ لحوالي ثلاثة مليون عام.
إن دور الوعي عظيم في فرز واستيعاب الإنسان لعناصر الكون وللمعطيات الخارجية، وبالتالي المشاركة في التنوير والنهضة للذات والمجتمع.
تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الوعي قد تطوّر عبر السنين والتراكم الثقافي لينسحب تدريجياً إلى مفاهيم أوسع وأعمّ تشمل التعبير عن القناعات والمواقف الإيجابية الفردية أو الجماعية نحو قضايا الواقع، وهذا أمر لا يتنافى مع حقيقة أن الوعي كان ولا يزال هو النواة المعرفية الأولى للإنسان، تلك النواة التي قادته على خُطى الإدراك نحو الحضارة الإنسانية.
تعليقات
إرسال تعليق