رحلة بريّة

(أُقصوصة)



- تأخّروا كثير الشباب..
العشاء قرّب يستوي وأخاف يطوّلون علينا أكثر ويبرد.
- الله يهديهم، توني كلّمتهم قبل شوي وقالوا حنا قريب، لكن ما يمنع نشوف وين صاروا الحين.
التقط حمد هاتفه الجوال المُلقى أمامه على السجادة التي يتشارك الجلوس عليها مع فهد المشغول بالطبخ على موقد الغاز المخصّص للرحلات..
عاود حمد الاتصال بخالد وحسين اللذين أخبراه أنهما قد وصلا بالفعل إلى الموقع حسب الإحداثيات التي أرسلها لهما، ولكنهما توقّفا بجانب الطريق الإسفلتي على أطراف (الشعيب)، ذلك أنهما يخشيان من الضياع داخله في هذه الليلة الشتوية الظلماء التي لا قمر فيها، حيث أنها كانت آخر ليالي الشهر الهجري، وكان حمد قد أخبرهما سلفاً عن كثرة ووعورة الدروب والمسالك البريّة المتشابهة التي تخترق هذا الشعيب الجديد عليهما، والتي تتقاطع فيما بينها فيما يشبه المتاهة الصحراوية.
- فهد، بستأذنك دقايق..
الله لا يهينك خفّف النار على عشانا، وأنا بطمر أجيب الشباب، هذاهم ينتظروني عند مدخل الشعيب.
- طيب، لكن لا تتأخرون تكفى.
قفز حمد إلى سيارته (الوانيت) وهو لا يزال يضع هاتفه الجوال على أذنه متحدّثاً إلى خالد وحسين، واختفى عن بصر فهد في ثوانٍ وكأن سواد الليل المحيط بهم قد ابتلعه..
بينما دلف الأخير إلى الخيمة المنصوبة خلف جلستهم الخارجية لإحضار بعض الأغراض التي يحتاجها من حقيبة الرحلات الضخمة الخاصة به، ثم عاد وجلس مباشرة أمام جذوة النار المشتعلة في حطب السمر خارج الخيمة طلباً للدفء، وقد أحكم تغطية كل شبرٍ من جسده المربوع داخل (فروته)..
تلك العباءة الصوفية الثقيلة التي تستخدم عادةً في مثل هذه الأجواء القارسة البرودة.
التفت عن يساره إلى انعكاس بخار الطهو الأبيض الذي ينفثه القدر فيما يشبه السحب المتراكمة على ضوء المصباح المشعّ بقوة والمثبّت أعلى الخيمة خلفه، غامراً مساحةً لا تزيد عن عدة أمتار فقط من المكان المنعزل الذي يخيّمون فيه، والخالي من المتنزّهين في هذه الليلة..
بينما كانت المواقع المحيطة بخيمتهم تغطّ في العتمة المخيفة التي لا يمكنه تمييز أية معالم فيها سوى عدد من أشجار الطلح العملاقة المتناثرة هنا وهناك والواقفة غير بعيد عنهم، حتى ليخيّل إليه أنها عبارة عن كتيبةٍ تحاصرهم من الجنود ذوي البزّات السوداء.
وفي الحقيقة، لقد كان موقعهم في هذا الشعيب البهيّ الطبيعة نهاراً بعد زخّات المطر المعتدلة في اليوم السابق والمزدان بأنواع الزهور الصحراوية كالخزامى والنفل هو المكان الأمثل الذي تمّ اختياره من قبلهم جميعاً كأصدقاء لقضاء يومين هادئين في أحضان الطبيعة الصحراوية، بعيداً عن رتابة الحياة المدنية وضغوطها.
كان حمد وفهد قد نصبا الخيمة وجهّزا المكان منذ العصر، على أن يلتحق بهما رفيقاهما ليلاً بعد أن يحضرا ما تبقّى من لوازم الرحلة.
لقد لاحظ فهد أن المكان ونظراً لجماله وروعة أجوائه نهاراً كان يعجّ بالكثير من عشّاق النزهات البريّة عوائلاً وأفراداً، بيد أنهم سرعان ما غادروا المكان جميعاً دفعةً واحدةً بمجرد حلول الليل، تماماً مثلما تفعل الطيور المهاجرة عند انتقالها الجماعي من مكانٍ إلى آخر..
وربما يفسّر ذلك من وجهة نظر فهد - ولا يمكنه أن يجزم بشيء - سمعة المكان السيئة ليلاً، طبقاً لرواية حسين عنه أثناء اجتماعهم الليلة الماضية في استراحتهم لترتيب تفاصيل الرحلة، وما تواتر من قصص شعبية متوارثة عن كون المكان مسكوناً منذ أمدٍ بعيد بأرواح الكثير من قتلى إحدى المعارك الوطنية الكبرى والذين تم دفنهم جميعاً في أنحاء متفرّقة من هذا الشعيب المثير للغموض والوحشة، الأمر الذي يدفع بالمتنزهين إلى عدم البقاء فيه ليلاً، وهو الأمر ذاته الذى دعى هؤلاء الأصدقاء المغامرين الأربعة إلى الإصرار على زيارته والتخييم فيه.. على الأقل لدحض مثل هذه الخرافات الشعبية المتداولة قديماً وحديثاً عن أماكن صحراوية متفرّقة حول الجزيرة العربية، حيث أنهم لا يؤمنون بتلك القصص بل ويحاربونها كشبابٍ واعٍ ومثقّف كما يفضّلون عادةً أن يطلقوا على أنفسهم.    
غطّت على سيل أفكار فهد المتوتّرة تلك الرائحة الزكية المتصاعدة من صمّام غطاء القدر والتي كانت تعلن صراحةً عن نضوج (مضغوط اللحم)..
ابتسم وهو يمنّي نفسه خلال دقائق بوجبة عشاء لذيذة طال انتظارها بعد أن نهشه الجوع والبرد.
في هذه الأثناء..
كان حمد الذي نفدت بطارية هاتفه الجوال وانطفأ فجأة يواجه بمفرده أزمةً حقيقية..
فها هو قد تأكّد بعد الكثير من المحاولات للوصول إلى الطريق الصحيح أنه قد ضلّ طريقه وعلق فعلاً في متاهة الشعيب، وذلك خلال دقائق معدودةٍ فقط من مغادرته لفهد وخيمتهم.
لقد أدرك سريعاً وبعد فوات الأوان أن هذا الشعيب الملعون ومعالمه ودروبه في الليل تختلف كثيراً عنها خلال النهار وكأنه مكانٌ آخر.
إنه يزداد قلقاً وهو يراوح ذهاباً وإياباً منذ نصف ساعة في ذات الدروب المتشابهة وكأنه يدور ويدور منذ أعوام في هذه المتاهة..
لقد توقّف مراراً وتجوّل على قدميه على نور المصابيح الأمامية لسيارته والبرد يتسرّب إلى عظامه، أملاً في أن يلمح ما يدلّه على طريق الخروج أو أن يعثر على من يساعده، ولكن الوقت الذي كان يمرّ عليه سريعاً وإشارة نفاد وقود السيارة المضاءة في العدّاد أمامه قد أرهقاه أكثر في لحظاته العصيبة تلك.
كانت نبضات قلبه الذي كساه القلق تتسارع، وقطرات العرق التي تغطي جبينه وشعر رأسه ورقبته تتزايد، وحرارة أنفاسه التي لا تهدأ تتصاعد، بينما الخوف يهزّ كيانه، والعطش نتيجة الذعر والإرهاق وبرغم برودة الأجواء يسيطر على تفكيره..
لقد كان جسده يرتعش بالكامل، وكل خليةٍ فيه ترتعد..
كان لا يتوقّف في هذه الأثناء عن التضرّع إلى الله لإنقاذه من مأزقه هذا، مستدعياً عشرات القصص التي سمع بها وقرأ عنها بشأن هلاك الكثير من تائهي الصحاري عطشاً وجوعاً.
إنه لا يعلم شيئاً عن رفاقه الذين انقطع الحديث بينهم بمجرد انطفاء هاتفه الجوال..
وفجأةً..
لمح جذوة نار من بعيد..
فطفق يشكر ربه والفرحة المشوبة بالارتياب تتملّكه..
أخيراً لاح الفرج!
انطلق بسيارته بأقصى سرعة حتى توقّف عند النار تماماً، نزل منها كالمجنون، ولكن فرحته تبخّرت حال اكتشافه ألّا أحد في الجوار، فقد كان المكان ويا للغرابة خالٍ تماماً، والنار المتّقدة تتراقص وحيدة وكأنها تنظر إليه في سخرية..
تجمّد في مكانه لوهلة، ثم بدأ يرفع عقيرته منادياً ومستغيثاً ولكن لا جواب!
عاد إلى سيارته، وتابع مسيرة التيه المتواصلة التي جاوزت الساعة وقد شارف على الإنهيار، وبدأ يرى كل قليل عن يمينه وعن يساره جذوة نارٍ جديدة تخرج من العدم..
وما إن يقترب منها حتى تختفى!!
تكرّر معه نفس السيناريو عدة مرات، ما أثار في نفسه المزيد من الرعب الكامل الذي لا يمكن السيطرة عليه..
"أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق"..
كان يتمتم بينه وبين نفسه بهذا الذكر وبالعديد غيره من الأذكار التي كان يحفظها، وقد ثبت لديه صحة تلك القصص عن أن هذا الشعيب مسكون بالفعل.
وما هي إلا لحظاتٍ أخرى حتى اكتمل مسلسل الأحداث في هذه الليلة العجيبة..
فقد اضطرب سلوك سيارته عدة مرات ثم توقفت مرغمةً بعد أن نفد وقودها تماماً.
عند هذه اللحظة فقط، استسلم حمد لقدره المحتوم وهو منهكٌ للغاية بعد أن طواه اليأس القاتل..
"أجل، يبدو أن كل شيءٍ انتهى، لا أريد أن أموت وحيداً هنا، لقد فوّضت أمري إليك يا رب"..
هكذا كان يحدّث نفسه في رعب حقيقي لم يجرّبه طوال حياته بعد أن أسلم جسده للبرد والعطش ومقعد السيارة..
لم يعد قادراً على التفكير أبداً لإيجاد الحلول وقد أصيب عقله بشللٍ كامل، بينما بدأت العتمة الحالكة خارج سيارته تزحف إلى عينيه على مهلٍ، وتحيل بصره إلى ظلامٍ دامس، وذلك الطنين الرهيب يصكّ أذنيه ويكاد يفتك بجمجمته.
لقد شعر بأن ما يشبه الخدر الإجباري يستولي على ذهنه وجسده دون استئذان، وقد انتهى كل شيء!
حتى هذا اليوم لا يعلم حمد كيف وجد نفسه فجأةً ودون أيّ تفسير يقف بجانب باب السائق المفتوح لسيارته، معتضداً على أكتاف خالد وحسين من الجهتين، بينما فهد يواجهه وهو يمسك برأسه ويهزّه، وخيمتهم تلوح أمامه من خلف كتفي فهد:
- الحمد لله إنك بخير يا حمد..
خوّفتنا عليك يا رجل..
رحت تجيبهم عشان ما يضيعون ولكنك ضعت وهم جوّ!
ما أقول إلا سبحان من ألهمك توقف بسيارتك عندنا بالضبط قبل ما يغمى عليك!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ثرثرةٌ على ضفاف النسيان | ١٣ | غرور

الوعي⁩.. نواة الإنسانية والحضارة