جريمة مجتمع
(أُقصوصة)
ألقت شمس الأصيل بخيوطها الذهبية الأخيرة لذلك النهار الصيفي..
كانت تلك الخيوط تتسرّب من خلف الستارة الزرقاء للنافذة التي تتوسط
الصالة، في الشقة السكنية المتوسطة الحجم، بأحد أحياء الرياض..
وكأن الشمس كانت تلقي نظرةً فاحصةً قبل أن تودّع في نهاية يومها جسد
تلك الزوجة البائسة المسجّى في وسط الصالة، بينما لم يتوقف ذلك الطفل الصغير عن
النشيج، منكفئاً على جسد أمه الساكن بلا حراك منذ ما يقارب الدقائق العشر، المدة
التي فقدت فيها الأم وعيها قبل أن تستعيده فجأة.
فتحت تلك المسكينة عينيها المتورّمتين ونظرت إلى السقف الأبيض
فوقها..
لم تكن الرؤية واضحة في البداية، لكنها كانت كافية لترى صغيرها الذي
كان يهزّ بدنها دون توقّف، وصوت بكائه المرير الممتزج بالنداء عليها يكاد يصمّ
آذانها.
جذبته إلى صدرها بقوة وأخذت تقبّله بلهفةٍ بالغة في كل جزءٍ طالته من
وجهه ورأسه، وتمسح دموعه السحّة التي اختلطت بمخاط أنفه المحمرّ من فرط البكاء.
كانت تحسّ بألمٍ رهيب يجثم عليها، ويغطّي كل مفاصلها وعظامها،
ويمنعها من الحركة..
وكأنما قد التصق ظهرها بأرضية الصالة بغراءٍ قويّ.
هدأ الصغير قليلاً بعد أن ضمّته وربّتت على ظهره وكتفيه وحدّثته
بكلماتٍ حنونةٍ مقتضبة، وقد اطمئن أخيراً بأن أمه الحبيبة لا زالت على قيد الحياة.
تأوّهت بصوتٍ مكتوم وحاولت أن تمسح على وجهها بأناةٍ، فاكتشفت أنها
بالكاد تشعر بأسنانها وشفتيها..
وتحسّست أنفها الموجوع وكأن به مئة كسر، وإذا به مسدودٌ تماماً، مع
صعوبة واضحة في التنفس عبره، وقد تجلّط ذلك الخيطٌ الرفيع من الدم الخارج منه..
لا بد أنها رائحة الدم تلك التي تزكم أنفها منذ أفاقت من غيبوبتها
القصيرة.
مرّرت كفّها ببطء على ملابسها المتهتّكة لتستر ما استطاعت من جسدها
المهشّم، ثم التفتت في كل الاتجاهات التي سمحت لها أوجاع رقبتها وكتفها أن تحرك
رأسها صوبها..
لاحظت آثار المعركة التي نشبت منذ نصف ساعة..
عادت لتشخص ببصرها بعيداً فيما وراء السقف وقد نام صغيرها الغارق في
دموعه على صدرها.
واستعادت رويداً رويداً تفاصيل ما حدث..
إنه زوجها المتوحّش والمدمن على تعاطي المخدرات وقد أبرحها ضرباً كالعادة..
إنه يفعل ذلك بلا هوادةٍ ولا رادعٍ منذ زواجهما، ولأتفه الأسباب التي
يبدع في اختلاقها في كل مرة، حتى عندما كانت حاملاً لم يرحمها ولم يرأف بحالها..
لكنها كانت ضربةً مختلفةً قليلاً وتفوق سابقاتها هذه المرة!
ربما لأنها كانت بسبب شكوكه في خيانتها له..
تلك الشكوك التي تولّدت داخل أفكاره بسبب تأثير المخدرات، وسرعان ما
بدأت تتعاظم مؤخراً في ذهنه المريض دونما أدنى دليل.
لقد استنفد كل مبرّر لضربها كما يحلو له..
وقد شعرت هذه المرة بأنه يميل إلى قتلها والخلاص من عذابه الذي يملأ
رأسه، تماماً كما وصف ذلك وهو يهدّدها في أكثر من مناسبة خلال الآونة الأخيرة.
وبالفعل..
فقد كاد أن يفعلها هذه المرة عندما خنقها وأفلتها مرتين وهو يصبّ
عليها جام غضبه، ويدكّ جسدها المسكين بكل ما أوتي من قوة.
لقد كانت ربع ساعةٍ كاملة من الصفع واللكم والركل تخلّلتها استراحتين
مليئة بالاتهامات والهذيانات..
لقد ألقى بها على الأرائك الزرقاء التي تحيط بالصالة أكثر من مرة،
وشدّها بقسوةٍ من شعرها حتى كاد أن يقتلعه.
كانت تصرخ وتستنجد وتتوسّل إليه وتقاوم كما تفعل عادةً، ولكن دون
جدوى.
إنها لا تستطيع مقارعته أبداً عندما يتحوّل في هكذا لحظاتٍ إلى ثورٍ
هائج يحطّم كل شيءٍ في طريقه.
وبعد أن خارت قواه، غادر الشقّة بنفس العنف وقد تركها ككومة من اللحم
المفريّ المكوّم على الأرض دون حراك..
هذا آخر ما تتذكره وهي تفترش الأرض على ظهرها قبل أن تفقد
وعيها.
كانت البداية عندما استفزّته دون قصد بينما كان يلاعب صغيرهما بعد
الغداء، وهو لطفٌ غير مألوفٌ منه..
إذ نقلت إليه بكل لباقتها المعهودة عنها رغبتها الصادقة النابعة من
حبها له بأن يتوقف عن إدمانه للمخدرات، ويبحث عن علاج لهذه الآفة التي دمرّت
حياتهم جميعاً.
لم تكد تنهي كلماتها تلك حتى قذف بالصغير بعيداً، وهجم عليها كوحشٍ
كاسرٍ دون مقدّمات، وبدأ يرعد ويزبد بصوتٍ هادر، وهو يسبّها بأقذع الأوصاف ويلعنها
ويتّهمها بخيانته، وصغيرهما يشاهد كل ذلك واقفاً بركن الصالة، متشنّجاً باكياً من
هول المنظر، وأمه تتلقّى كل ذلك التعنيف البربريّ !!
لفّها الهدوء المقيت من جديد..
وطافت بذاكرتها صورٌ شتّى من حياتهما..
واجتاحتها مشاعر حمقاء مختلطة بينما انداحت الدموع رغماً عنها من
عينيها، فيما يبدو وكأنه شعور متأخّر بالأسف على حبها وتضحيتها من أجله.
تردّدت تلك الجملة التي لا تستطيع نسيانها داخل رأسها..
تلك الجملة التي كانت تصف حاله قبل الزواج بصدق..
وذلك عندما صارحتها ذات يومٍ أخت زوجها الصغرى، والمقرّبة منها
كصديقة، وذلك أثناء شكواها منه إليها..
حيث أشاحت الأخيرة بنظرها عنها، وأطرقت بأسىً وهي تقول:
- في الحقيقة..
أعترف لك أنها جريمتنا..
لطالما عانينا أنا وكل أهلي منه ومن سوء سلوكه وإدمانه للمخدرات،
لكننا بدلاً من علاجه خبّأنا سرّه خوفاً على سمعتنا، كنا بصراحة متّفقين على تلك
المقولة المشهورة..
زوجوه يعقل !!
تعليقات
إرسال تعليق