يُمهلُ ولا يُهمل

(أُقصوصة)



كانت سيارتهم الصالون الكبيرة لا تكاد تتّسع حتى لطفلٍ إضافي، فأفراد العائلة التسعة قد توزّعوا على الصفوف الثلاثة بالتمام والكمال..
وبالرغم من أن مقصورة السيارة كانت تغصّ بأجسادهم إلّا أن جوّاً من السعادة الحقيقية والدفء العائلي كان يخيّم عليهم وهم ينطلقون عائدين إلى منزلهم قبيل منتصف الليل، وذلك بعد أن قضوا ليلةً استثنائية في مسقط رأسهم وهي تلك القرية الوادعة القريبة من الرياض، حضروا واستمتعوا خلالها بحفل زواج أحد أقاربهم.
كان هيثم يجلس خلف مقود السيارة التي تتهادى كالسفينة وهي تمخر ذلك الطريق الخالي الممتدّ أمامه بلا نهاية، ولم يكن قادراً على أن يخفي ابتسامته العريضة وهو يحاول جاهداً إرضاء الذائقة الفنّية لأخواته المشاكسات الثلاث اللاتي يكبرنه عمراً، ويتقاسمن مع أمهنّ الصف الثاني من مقصورة السيارة، بينما كنّ الأخيرات يتنازعن فيما بينهنّ كعادتهنّ مع اختيار كل أغنية جديدة يضعها هيثم، والتعليقات المضحكة التي يتقاذفنها لا تتوقف.
أما الأمّ، فقد كانت تستفيض في سرد أدقّ التفاصيل والأحداث التي رصدتها أثناء حفل الزواج، وقد دنت بوجهها من أذن الأب الستيني الوقور الذي أمال رأسه قليلاً إلى الخلف ليستمع من باب المجاملة فقط إلى ثرثرة زوجته التي أدمنها عبر السنين وهو يجلس مسترخياً في المقعد المجاور للسائق..
ولقد كانت الأم تضطر أحياناً إلى رفع صوتها ليصل إلى مسامعه بوضوح بسبب صوت الأغاني وكورال الضجّة الفرائحية التي تحيط بهما دون انقطاع منذ مغادرتهم حفل الزواج.
وأمّا في الصفّ الأخير من المقصورة، فقد كانت كبرى بنات العائلة ساره تحتضن في حنانٍ طفلها الوحيد ذا العامين، وتتشاطر المقعد مع أخيها الأصغر وليد، وكانت قد أصرّت على مرافقة أهلها إلى ذلك الحفل في ظلّ غياب زوجها المُرابط منذ عدة أشهر مع زملائه من الجنود البواسل على الحدّ الجنوبي للوطن.
ولأن وليد كان يحب الأطفال حبّاً جمّاً فقد انصرف طوال الطريق إلى ملاعبة ابن اخته، وقد كان يسلك في ذلك أسلوباً يجعل ذلك الصغير ينفجر ضاحكاً في نوباتٍ متعاقبة، فيضحكان هو وأخته معاً على ردات فعل الصغير البريئة.
قطعت سيارتهم نصف المسافة باتجاه الرياض حينما اكتشفت هند أنها قد نست هاتفها الجوال في بيت أقاربهم أصحاب الزواج، فألحّت على هيثم بالعودة إلى القرية ولكنها واجهت عدة مرات رفضاً مغلّفاً بالـ(الطقطقة) من قبل هيثم، لولا أن تدخّل أبوهما ليحسم الأمر، مجبراً هيثم على العودة.
وما إن استدار بالسيارة وقفل عائداً من جديد إلى القرية حتى جاء دور هند لتنتقم من عدم استجابته لتوسّلها، وتكيل له الصاع صاعين على هيئة تهكميّة استفزّته ولكنه لم يملك إزاءها واحتراماً لأبيه إلّا أن يشير لها بيده إشارةً خفيّة ترمي إلى نيّته المبيّتة للانتقام منها لاحقاً عندما تسنح له الفرصة، لتعود بعدها الأجواء العائلية الحميمية كأفضل ما تكون.     
كانت بالفعل أمسية رائعةً لا تُقدّر بثمن بالنسبة إلى كل أفراد العائلة..
أجل، لطالما أحبّت تلك العائلة الودودة الحياة كما ينبغي، فأهدتها الحياة بالمقابل مفاتيح السعادة..
ولكن، وللأسف..
يبدو وكأن الأقدار قد استدارت هي أيضاً بطريقةٍ ما مع استدارة سيارة العائلة..
لقد تحوّل كل ذلك القدر من الوئام والسعادة الذي تنعم به العائلة إلى أعظم مفاجأةٍ مأساويةٍ مرّت عليهم طوال حياتهم جميعاً..
مفاجأة المفاجآت..
فقد كتبَتْ تلك الناقة (المجهِم) الفاحمة اللون التي خرجت فجأةً من العدم واعترضت طريق السيارة المندفعة آخر سطرٍ في ختام قصة العائلة السعيدة!
لم ينتبه إليها إطلاقاً لا هيثم ولا أحدٌ منهم سواه، وذلك بسبب لونها القاتم وظلام الليل الحالك في تلك الساعة والذي أخفاها عن أعينهم جميعاً..
لقد كان ارتطاماً رهيباً بحقّ لا يمكن تفاديه ما بين سيارةٍ مسرعةٍ ومُثقلةٍ بالركاب وبين أنثى حيوانٍ ضخم تقف ساكنةً وهي تكتفي بالنظر في بلاهةٍ إلى أنوار السيارة الأمامية!
نعم، لقد كانت تلك الناقة تقف واثقةً من صمودها، كما تقف أيّ شجرةٍ عملاقةٍ تتحدّى إعصاراً، وذلك بكامل وزنها الذي يصل إلى نصف الطنّ، وبكامل ارتفاعها الذي يناهز المترين، ولكن لا مجال أبداً للثقة أمام جبروت الإعصار الذي يقتلع في طريقه أعظم شجرةٍ واثقةٍ ليطوّح بها بعيداً كريشة في مهبّ الريح..
وها هو الدويٍّ المخيف الصادر عن الارتطام القاتل وقد وصل صداه إلى مسافاتٍ بعيدة، مخترقاً هدوء الهزيع الأوسط من الليل في تلك البقعة الصحراوية المنعزلة.
وعلى الفور..
انحرفت السيارة التي كانت تمتلىء بكل تلك الأرواح البريئة وبعنفٍ حادّ، لتطير في الهواء بضعة أمتارٍ للحظاتٍ قبل أن تنقلب بطريقةٍ جنونيةٍ عدة مرات، وتستقرّ ككومةٍ من الخردة بجانب الطريق..
وبينما تكوّمت بعض جثث أفراد تلك العائلة المنكوبة داخل هيكل السيارة الذي تحوّل إلى قفصٍ مشوّهٍ من الصفيح، فقد تناثرت الأجساد الأخرى التي تطايرت أثناء الانقلاب وبلا ملامح في كل مكانٍ خارج السيارة..
يا للبشاعة..
لقد مات جميع من كان في السيارة دفعةً واحدةً؛ من أصغر طفل وحتى الأب الكهل!
لم ينجُ منهم أحدٌ البتّة.
وما هي إلا لحظاتٍ حتى اندلعت النيران لتلتهم كامل السيارة، وتبدأ بالتسرّب إلى خارجها سريعاً وهي تلاحق شريط الوقود المنسكب على الأرض.
واكتمل المشهد الكارثي مع منظر الأشلاء البشرية الممتزجة بالدماء والملتصقة بالهيكل الفولاذي الخارجي للسيارة وألسنة اللهب تحرقها بلا رحمةٍ، بعد أن حوّلت النيران كل من كان بداخل السيارة وخلال دقائق معدودة إلى جثثٍ مشويّةٍ..
أما الطرف الآخر من ضحايا الحادث المروّع وهي الناقة المسكينة؛ فقد تحوّلت هي الأخرى إلى ما يشبه العجينة المتماسكة من اللحم المفروم بالعظام والجلد والملقاة على قارعة الطريق، بحيث لا يمكن لأفضل خبيرٍ تمييز رأسها عن بقية أعضائها إلّا بصعوبةٍ بالغة.
ويُسدل الستار الأخير على مشهدٍ يصعب وصفه..
إذ خفّ ذلك الراعي الأسمر النحيف وهو يحوقل بصوتٍ مرتفعٍ إلى ما تبقّى من تلك الناقة المنكوبة والتي كان ذنبها الوحيد أنها تخلّفت قليلاً عن بقية القطيع الذي كان يعبر به وبكل استهتار ذات الطريق قبل لحظاتٍ من وقوع الحادث..
ثم استل سكينه الحادة وباحترافٍ بالغ وعلى ضوء النيران المندلعة في السيارة قام باجتثاث قطعة دائرية من جلد الناقة الغارقة في دمائها، وهي تلك القطعة التي تحمل الوسم المميّز لقطيع النياق الذي يرعاه..
كل ذلك بأمرٍ صارم تلقّاه للتوّ عبر هاتفه الجوال من مالك تلك الرؤوس من الإبل.
أما لماذا قام بذلك؟
فلكي يخفي معالم الجريمة البشعة، فلا يتمّ التعرّف لاحقاً من قبل الشرطة على من يملك تلك الناقة الهالكة..
وبذلك يكون غالباً قد نجا هو ومالك النياق من المسؤلية الجنائية عن إبادة عائلةٍ بكامل أفرادها!!
ولم ينتهِ الإجرام عند هذا الحدّ..
بل يواصل الراعي وبكل برودٍ تنفيذ الأوامر الآثمة..
فيسوق فارّاً بجلده بقية القطيع الذي نجا من الحادث، ويتوارى بهم خلال لحظاتٍ تحت جنح الظلام..
وكأن شيئاً لم يكن..
مخلّفاً وراءه أرواحاً زكيّةً قد أُزهقت بلا ذنب وأحلاماً يانعةً قد تبدّدت في غمضة عين..
وعلى الرغم من رباطة جأش الراعي نتيجة تمرّسه على إخفاء ملامح الجريمة التي سبق وأن فعلها مراراً بنجاح، إلّا أنه في الحقيقة كان يتجاهل وبصعوبة صدى ذلك الصوت الرخيم الذي كان يتردّد داخل رأسه..
" إنّ من يُفلتُ مؤقتاً من عدالة الأرض لن يفلت حتماً من عدالة السماء ".

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ثرثرةٌ على ضفاف النسيان | ١٣ | غرور

رحلة بريّة

الوعي⁩.. نواة الإنسانية والحضارة