جنين

(أُقصوصة)



لا، لا..
لم أعد أطيق هذه الحياة أكثر، إني سجينٌ هنا في هذه الزنزانة اللزجة والمظلمة منذ عرفت نفسي..
لست متأكداً منذ متى على وجه التحديد؟ غير أني على يقين أنه زمن طويل، طويل جداً..
ذاكرتي لا تخذلني عادةً، أقرُّ بأني لا أدري كيف وصلتُ مع أولئك الملايين من أقراني إلى هذا المكان، ولكني أتذكر جيداً تلك اللحظات الأولى التي وجدت نفسي فيها أسبح معهم بكل مهارةٍ وبلا مقدمات داخل تلك الحلبة متعدّدة المحطّات، وأتنافس كالمجنون لأثبت لنفسي ولهم أنني أقوى وأذكى (وحيد خليةٍ مُذَنَّب) على الإطلاق!!
يالي من جنينٍ يبعث على الشفقة حقاً..
ويالها من ذكرياتٍ تثير في ذاتي الآن مشاعر متناقضة كلما استرجعت تفاصيل حياتي هذه، عندما كنت أظنّ نفسي حرّاً وصاحب قرار..
وذلك قبل أن أقع في الفخّ الذي زيّنه لي جوّ المنافسة المحموم، وحبّبه إليّ ذلك الشعور الطاغي بالقوة والزهو بالانتصار.
لقد كبرتُ كثيراً منذ ذلك الحين، وتضاعف حجمي عشرات المرات، وأصبح هذا الكهف الذي لم أستطع مغادرته البتّة منذ ذلك الحين والذي كان يثير إعجابي حينها لضخامته، أصبح بالكاد يتّسع لي ولآمالي..
أجل، أتذكّر كل شيءٍ..
وما أغرب الذكريات..
لقد كان بالفعل زمناً عصيّاً على النسيان.
في الحقيقة، لم أكن أعرف معنىً للزمن حتى سمعت أمي وأبي يتحدّثان عنه بين الفينة والأخرى خارج زنزانتي هذه، فيطلقان على تنوّعه عدة أسماءٍ أبدعا في اختراعها اعتماداً على مقدار ذلك الزمن، فهناك النهار والليل، الصباح والمساء، اليوم والأمس وغداً، وهكذا..
قد تعني لهما هذه الأزمنة وتمايزها أهمية ما ولكنها بالنسبة إليّ مجرد أسماء تمكّنت من فهم معانيها.
أمّا لماذا لا تعنيني؟
فلأني غارقٌ ها هنا بينما يبدو العالم هناك في الخارج مثيراً وممتعاً ومدهشاً بطريقةٍ لا ولن أتخيّلها، إنهما يتعاطيان الحياة هناك في الخارج بينما أغوص أنا هنا في جوف هذه البركة الخانقة من الكآبة والضجر وبلا غاية.
أجل، أجل..
أنا ابن هذا الظلام السائل السرمديّ الـ...... الـ...... ، وسأضيف ما أشاء من الصفات اللعينة، ومع ذلك كلّه، لن يعبأ بي من سكان ذلك العالم أحد إلا هي فقط!
هي، ولا أحد سواها كما أظنّ..
قد أقسو بذلك على أبي الذي لا ينصت إليّ ولا يحنو عليّ ولا يهتمّ لأمري إلا ما ندر، مع أنه السبب في وجودي، ولكني لن أقسو عليها، على أمي!!
أما لماذا؟
فربما لأنها الكائن الوحيد الذي يحبني حبّاً عظيماً لا قيد فيه ولا شرط، وهي أيضاً الكائن الوحيد الذي يهتمّ لأمري في كل لحظةٍ داخل كهفي اللدود هذا..
فهي من تحدّثني وتطمئن على نموّي وصحتي، تغذّيني وتربّت عليّ، لا تغضب بل تبتسم في جذل إذا بلغت بي الكآبة مبلغها وبدأت في رفسها بلا توقّف، ومن فرط حبها واهتمامها بي أكاد أشعر بها كما أشعر بنفسي مع كل نبضةٍ فيها، وفي كل نَفَس من أنفاسها.
وبرغم أنها سجّانتي، بيد أني أحبها كما تحبني، وكم من سجينٍ وقع في غرام سجّانه!
أعلم أنها تتمنى خروجي من سجن بطنها إلى رحابة العالم الحقيقي تماماً كما أتمنّى، وعلى الرغم من أن بقائي هنا ثقيل عليها ومؤلم لها، غير أنها بذات الوقت ليست حريصةً عليه مثلي، ولديها أسبابها..
إنها تزعم كما سمعتها تصارح إحداهن ذات مساء أن ذلك في مصلحتي، فهي تريد أن تتأكد من إتمامي المدة الكافية في جوفها، وذلك خوفاً عليّ لا خوفاً على نفسها!
إنّه خوف تراه هي وجيهاً وأراه أنا مبالغاً فيه حسب ظني، وهنا أسجّل اعترافي بالحقد الدفين على كل أولئك الأطباء الذين روّجوا لهذا الخوف غير المبرّر الذي تبنّته أمي كحقيقةٍ ثابتةٍ لا تقبل النقاش ولا تخضع للمراجعة.
أما أنا فأعتقد يقيناً أن أمر خروجي من هنا لا يجب أن يعتبر من الأمور المعقّدة..
صحيحٌ أنه يبدو وكأنه ليس بيدِ أمي تماماً، ولكن القرار في النهاية قرارها، نعم، إذ يمكنها على الأقل أن تسرّع في إجراءات خروجي الحتميّ من هنا متى شاءت!!
حسناً، حسناً..
لقد وجدتُها أخيراً وبعد طول تفكيرٍ وتأمّل..
لا بد أنها فكرةٌ مجنونة لن تخطر على بالها، فكرة ستفاجئها بلا شك..
لقد قرّرت أن أجبرها على الخروج من هنا رغماً عنها، ليست حتماً الطريقة المثلى للخروج ولكنها قد تكون الأسرع.
سألفّ هذا الحبل السريّ الذي يصلني بها عدة مراتٍ حول جسدي، وسأشدّه بكل قوّتي ليتمزّق، وبالتأكيد ستتألم قليلاً، ثم ستهرع إلى الأطباء والممرضات في المستشفى الذي تزوره دورياً ليُخرجوني ريثما يحاولون رتق ما تمزّق من الحبل!
لا أعلم كم مرّ عليّ قبل أن تنجح خطتي المرسومة بدهاء، وها أنا في المستشفى أستمع إلى جلبة الأطباء والممرضات مع أصوات الكثير من الأجهزة الطبية من حولنا.
إنّني في هذه اللحظة بالذات  أنتظر لحظة الحقيقة الأولى التي لطالما انتظرتها..
لحظة خروجي إلى العالم الواسع..
وإلى أمي..
لحظة الحياة..
سأخرج بعد قليلٍ من هنا إلى الوجود لأمارس حياتي الحقيقية، سأرى العالم لأول مرةٍ بعينيّ، ولن أكتفي بتخيّله فقط كما تعوّدت..
كم أنا مشتاق لتلك اللحظة التي لا تتكرّر أبداً..
سوف أستمع لصوت أمي وأبي وأصوات كل شيءٍ مباشرةٍ لا من خلف جدران زنزانتي..
ولكن مهلاً مهلاً..
ربّاه، ما الذي يحدث؟؟
ماذا سيفعل بي هؤلاء المجانين؟
إنهم يزعمون أني جنين ميّت نتيجة اختناقي من التفاف الحبل السرّي حول رقبتي!!
- يا أنتم، رجاءً استمعوا إليّ جيداً، أنا من فعل ذلك عمداً لتخرجوني من بطن أمي، لذا لطفاً أخرجوني الآن من هنا ودعوا عنكم التفوّه بمثل تلك الخزعبلات.
حمداً لله، لقد تجاوبوا أخيراً مع نداءاتي..
لقد فتحوا بطن أمي بسرعةٍ وأخرجوني بالفعل.
لكنّ، ويا للغرابة..
أنا لا أرى شيئاً سوى الظلام!
يا إلهي..
لقد لفّوا جسدي بالكامل في ملاءةٍ ثقيلة بعد أن تفحّصوا وجهي وصدري، ثم لّوحوا بي عدة مرات رأساً على عقب، وخبطوا على ظهري قليلاً.
أشعر بهم وأسمعهم يردّدون فيما بينهم:
- للأسف..
الجنين فعلاً بارد وميت ولا يتنفس!!
أتنفّس؟
وكيف أتنفّس؟؟
أرجوكم، أخرجوني من هذه الملاءة اللعينة، وأخبروني فقط كيف أتنفس!!
أمّاه، أمّاه أنقذيني..
أتوسّل إليك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ثرثرةٌ على ضفاف النسيان | ١٣ | غرور

رحلة بريّة

الوعي⁩.. نواة الإنسانية والحضارة