جاثوم ليلة صيف
(أُقصوصة)
لقد انقضت أسوأ لحظات مرّت عليّ طوال حياتي..
انقضت باستسلامي بعد أن بذلت كل جهد ممكن وغير ممكن، لقد حاولت
وحاولت ربما للمرة الألف أن أفتح عينيّ الغارقتين في الظلام المرعب، ولكن دون
جدوى.
جرّبت مراراً بكل ما استجمعته من قواي التي خذلتني أن أحرّك أيّاً من
يديّ المشلولتين، غير أني فشلت في هذا أيضاً، حتى رجليّ وظهري وكل عضلةٍ في جسمي
لا تستجيب لإرادتي..
رحماك يا ربي..
على الرغم من استسلامي الموجع إلّا أن عقلي المأفون لم يكفّ عن
محاولاته وهو يتساءل في وهن:
- مالذي يجري؟
الأمر يتجاوز بلا شكّ إصابتي بالشلل، إنه أكبر بكثير من ذلك، لا مجال
أبداً لبصيصٍ من الطمأنينة وأنا على حالتي هذه، أغوصُ في بحرٍ من العجز واليأس.
لقد قاومت خوفي الرهيب والمتصاعد منذ أن استقيظت من نومي، بيد أني
كنت أنهار رعباً مع كل محاولةٍ فاشلةٍ أخرى..
لم أعد أرغب بالمزيد من المحاولات التي لا تزيدني إلّا إرهاقاً
ووجعاً.
إذا كان ولا بد من الخضوع لقدري السرمديّ هذا، فلا أقلّ من فعل ذلك
كمؤمنٍ حقيقيّ؛ بقلبٍ مطمئنٍ ونفسٍ راضية.
لقد دعوت الله بكل رجاء كما لم أفعل من قبل حتى ابتلّت عينيّ
المغمضتين وجوارحي المنكسرة..
حسناً، آن لي أن أستسلم لجبروت هذا الشيء الذي قضى عليّ، كان لا
بد أن أدرك منذ البداية أن هذا الأمر أكبر من استيعابي وقدراتي..
إنّه حتماً أمرٌ جلل لا قِبَلَ لي به البتّة!
ربما كان مبعث رعبي ومقاومتي أنها المرة الأولى في حياتي التي أتعرّض
فيها لهكذا حالة..
وربما تكون الأخيرة!!
هل أنا الآن ميّت؟
هل انتهى كل شيءٍ هكذا وبلا مقدّمات أو تحذيرات؟
لم أزل شاباً يافعاً ولم أشبع من حياتي بعد!
لا، لا أظنّ أنّي ميّت..
الميّت لا يعي ولا يفكر ولا يتنفّس وإن كان بصعوبة مثلي، والميت لا
يشعر بنبضات قلبه تتقافز في عنف ولا بأعضائه وبكل ما حوله!
إذاً قد أكون في طور الاحتضار ومفارقة الحياة..
"أشهد ألّا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"
نُطقْ الشهادتين أراحني أكثر مما توقّعت!
مهلاً، وهل الاحتضار يستغرق كل هذا الوقت قبل أن يهدأ كل شيء ونفارق
الحياة؟
لا أعلم، ولا أظنّ أن أحداً يعلم!
كل ما أعلمه في هذه اللحظة أنني أسمع جيداً صوت مكيف غرفتي وهو يوزّع
عليّ نسيمه البارد في هذه الليلة الصيفية الحارّة من ليالي يونيو.
إن صدق حدسي، فنحن لا نزال ليلاً منذ غفت عيناي..
منذ سقطت نائماً على فراشي الذي أدمنت تقوّسه تحتي بعد ليلةٍ مرهقةٍ
من المذاكرة استعداداً لاختبار الغدّ..
لا شيء مؤكد في هذه اللحظة..
أستطيع أيضاً تمييز نقرات عقارب الثواني المتثاقلة في تلك الساعة
الحائطية الفضية القديمة المعلّقة فوق رأسي..
كم أكرهها؟ ولطالما تمنّيت تحطيمها!
هكذا إذاً..
لقد بدأت الحالة تكشف لي عن لغزها!
إنّ ما أمرّ به ليس موتاً أو احتضاراً، بل ليس حتى كابوساً أو خيالاً
كما ظننت منذ البداية..
إنه غالباً واقعٌ فظيع يجب أن أتعامل معه.
حمداً لله، فأنا على الأقل لم أمت!!
لم يحنْ دوري بعد..
ما أجمله من شعور أعادني للحياة..
إن هذا الشعور الغامر الذي يسربلني الآن بالامتنان على نعمة الحياة
يكفيني ويزيد، على الرغم من كل شيء.
أعترف بأني لا زلت خائفاً ومشلولاً ولكنني قرّرت ألّا أستسلم، سأقاتل
كالنبلاء حتى النهاية.
ربّاه..
لقد تأكدت الآن..
إنه الجاثوم الذي كنت أسمع عنه!!
أجل، أجل..
كيف فاتني التعرّف عليه منذ أول وهلة؟
إنه يشلّ حركتي تماماً، ويجثم بكل ثقله على صدري مطبقاً بكلتا كفّيه
الجليديتين التي لا ترحم على أنفاسي اللاهثة، وأظنّه يسعى إلى خنقي بلا هوادة..
في الحقيقة، لا أعلم لماذا يصرّ على قتلي؟
لا أريد نطق اسمه ثانيةً وإن في سرّي..
لا أنوي الاعتراف به بهذه السهولة، فلربما اطّلع هذا الشيطان المريد
على ما يجول في خاطري..
لم أعد أستبعد شيئاً في حالتي هذه!
أيّاً ما تكن أيها الجاثوم اللعين، سأنتصر عليك؛ سواءً كنت جنّياً
مؤذياً كما يردّد البسطاء، أو كنت حالةً من أحوال الوعي المضطرب الذي قد يحصل
أحياناً ما بين النوم والاستيقاظ كما قرأت في أحد الكتب المحترمة ذات يوم..
نعم، سأستيقظ الآن رغماً عنك، لن أسمح لك بأن تعبث بعقلي أكثر من
ذلك.
كنت أهمّ بشحذ كل ما أمتلكه من إرادة الحياة دفعةً واحدةً
للاستيقاظ..
فجأةً..
وبشكلٍ مروّع لا يمكنني وصفه..
اجتاحني سيلٌ جارف من المياه الباردة كاد أن يغرقني أنا وجاثومي،
ووجدت نفسي في لمح البصر جالساً وأنا ألهثُ على طرف سريري، بينما صراخ أمي كصاعقةٍ
مدويّةٍ يزلزل غرفتي..
فتحتُ عينيّ كالمجنون وقلبي يكاد يتوقّف، وإذا بها تقف أمامي حانقةً
وهي تحمل في يمناها ذلك الكأس الزجاجي الذي أفرغته عليّ:
- سعود، الله لا يسعدك..
قم، تأخّرت على اختبارك النهائي وجامعتك!!
تعليقات
إرسال تعليق